ربما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الابتكار المنشـآت الرائدة في مجال التقنية التي طورت أطر ومفاهيم معقدة لخلق محركات للنمو التجاري والاقتصادي. ولكن يمكن أيضاً استخدام بعض هذه الأطر والمفاهيم في تنمية المجتمعات لخلق مولدات للأثر الاجتماعي أكثر استدامة وفاعلية من الأدوات المتاحة حالياً. أود تسليط الضوء على هذا النوع من الابتكار وشرحه من جوانب مختلفة بشكل مبسط، لأن الأمور إذا لم تبسّط، صعب تطبيقها. لذا سأبدأ بتعريف الابتكار الاجتماعي كما لو كنت أتحدث مع طفل يسألني عن طبيعة عملي اليومي في تسامي لصناعة الأثر.
بدايةً يجب النظر إلى الابتكار الاجتماعي كآلية بحد ذاتها وليس صفة تطلق حسب تقييم المجتمع لأثر مبادرة ما. هي عملية أشبه ما تكون بعبور النهر من ضفة لأخرى حيث لا نستطيع رؤية ما نطأ عليه ومدى ثبات خطواتنا حين نعبر، ولكن باتباع الأسلوب الصحيح في المشي بشكل ممنهج مع تجربة تلو الأخرى٫ سنصل للهدف وهو الضفة الأخرى.
فالابتكار الاجتماعي سلسلة من الأفعال والتجارب المكررة والتي تهدف لبناء الحلول للتحديات التي يواجهها مجتمع ما. عناصره الأساسية هي كما يلي:
المساحة البيضاء:
هي مفهوم المساحة التي لم نتوصل لاختراعها بعد. فلو ألقينا نظرة على تاريخ الصدقات في المملكة العربية السعودية فقد ابتدأ بالصدقة المباشرة للمستفيدين في بيتوهم، ومن ثم تطور عبر البرامج التنموية ليكون عن طريق الجمعيات الخيرية، ثم تطور لمفهوم الحوالات البنكية المباشرة لحسابات الجمعيات الخيرية، ثم أصبح هناك قفزة نوعية كبيرة مع وجود منصات جمع الأموال (مثل منصة وقفي، إحسان، شفاء) التي نتبرع لها من أي مكان في العالم خلال عشر ثواني أو أقل.
المساحة التي ما بين كل وسيلة تبرع والتي تليها تعتبر مساحة بيضاء حتى يتم اختراعها، وفي تلك المساحة نستثمر أكبر قدر من الابتكار لنصل لوسيلة التبرع الجديدة التي تمكن وتسهل وصول المبلغ من المتبرع إلى المستفيد. فلو تم السؤال عما هي وسيلة التبرع القادمة التي ستجعل عميلة التبرع أكثر سهولة، فذلك الغموض هي المساحة البيضاء. ولذا الابتكار دائماً يحدث في منطقة عدم الارتياح مع المجهول، فطرح الأسئلة وتحليل البيانات قائم على بناء الحل العالي الأثر القادم.
التجربة:
إن لم يكن لدينا تقبل للفشل في أي منظومة تصنع الأثر، فإننا لن نطلق على أي حلول تطلقها بأنها “ابتكار اجتماعي”. ثقافة فشل التجارب هي جزء من عملية الابتكار الاجتماعي حين تطبيق التصاميم الأولية لأي حل، فالمبتغى هو الاستماع للمستفيد والتعديل المستمر حتى يتسنى لنا بناء حل مستدام الأثر.
المجازفة:
أي حل جديد في المجال الاجتماعي عالي الأثر هو حل لم يطبق من قبل. إن لم تكن لدينا القناعة الراسخة أن المخاطرة موجودة من قبل صانع القرار داخل المنظمة فلن نستطيع أبداً بناء حلول عالية الأثر. والمجازفة تشمل استثمار الموارد من أموال ووقت وغيره.
ولكن للتأكيد على ماهية الابتكار الاجتماعي بالتحديد:
هي آلية تطوير وبناء حلول جديدة فعالة للتحديات على مستوى مجتمع ما. وهذه الحلول بالعادة تتطلب توائم الجهود بين الجهات الحكومية، القطاع الخاص وقطاع الأثر بشكل خاص. وهذا يعني أن الابتكار الاجتماعي يهدف لخلق أثر مستدام على مستوى عالي وغير محدود.
قد يرى البعض أن الابتكار الاجتماعي مجرد (موضة جديدة) في القطاع غير الربحي دخيلة على ثقافتنا العربية والاسلامية، ولكنه من العناصر الرئيسية لمفهوم عمارة الأرض المتجذرة في تاريخ العالم الإسلامي وهناك أمثلة لا حصر لها كخلق أوقاف لإطعام الطيور وإنشاء نظام المياه والري في القاهرة. وقد يكون لي وقفة أخرى مع هذه السلسلة للحديث عن الابتكار الاجتماعي عبر تاريخنا الإسلامي ومفهوم عمارة الأرض خلال الحياة الدنيا التي دفعت المجتمعات الإسلامية للازدهار في عصورها الذهبية.
ختاماً
تأتي أهمية الابتكار الاجتماعي ليكون ركناً من أركان تقدم أي مجتمع، ليخلق حلولاً لا تخلق الأثر فحسب، بل تساهم في التنمية الاقتصادية لأي دولة، ونرى انعكاس ذلك في مستهدفات رؤية 2030 في المساهمة في الناتج المحلي للقطاع غير الربحي، والذي سيتم تحقيقه بتظافر الجهود بين المؤسسات العاملة في القطاع بإذن الله.