لماذا لا نفكر بشكل إبداعي؟

قالت العرب: “بضدها تتمايز الأشياء”، ولعل معرفة المعيقات التي تمنع العقل البشري من التفكير بطريقة إبداعية سبيلًا مباشرًا لمعرفة طريقة التفكير الإبداعية، فمعرفة مكامن الاعوجاج قد تكون منارة لتحديد نقاط الضعف ومعالجتها، وبالتالي نستطيع أن نجد طرقًا تجعلنا أكثر إبداعًا.

سأقدم إليك عددًا من الأسباب التي تمنعك من التفكير بطريقة إبداعية:

لأنّنا لا نحتاج إلى أن نكون مبدعين

يعتقد إدوراد ديبونو أن الطريقة التي يعمل بها الدماغ لا تجعل من التفكير الإبداعي هو الأساس؛ إنما هو الاستثناء، بمعنى أن العقل قد خُلق ليفكر بطريقة بناء الأنماط، ثُـم تكرار هذه الأنماط، ومن خلال التكرار يكون إنجاز العمل أكثر سهولة وبساطة، وهذا ما أطلق عليه إدوارد ديبونو “نظام التنظيم الذاتي”.

ويقصد بهذا النظام أن المعلومات اللاحقة تتأثر بالطريقة التي تتشكل بها المعلومات التي سبقتها. لتوضيح هذا الأمر، تخيل طريقًا ترابيًا يُشق للمرة الأولى بالكاد يمكن عبوره، أو حتى ملاحظته، ولكن بمرور الوقت وبتكرار عبور هذا الطريق مرة تلو الأخرى يُصبح أكثر وضوحًا وأقل خطورةً، مع زيادة سهولة عبوره.

والسبب عائد إلى أن مبدأ عمل الدماغ البشري قائمٌ على الاتصال بين مجموعة من الخلايا العصبية التي ترتبط معًا ويصبح تواصلها أكثر سهولة بتكرار الأمر مرة تلو الأخرى؛ فتزداد سهولة القيام بالأشياء، وتصبح جزءًا من اللاوعي، وتزداد أيضًا سرعة التنفيذ، ولكن هذا بحد ذاته معيق للتفكير الإبداعي، فيجعل من حياة الفرد تكرارًا لسلوكيات بعينها، إذ يقدر العلماء نسبة الأنشطة الأخرى الخارجة عن الروتين، والتي يُقصد بها التفكير الإبداعي بـ 2% فقط.

لأننا لم نتدرب على الإبداع

إن الطريقة التي ينظر بها المجتمع للإبداع والإرث التاريخي أسهمت في خلق انطباعٍ سلبيِّ عن الإبداع والمبدعين لارتباطه بالحالة المرضية في كثير من الأحيان. كما أن طريقة نظرة المجتمع أسهمت أيضًا في ربط الإبداع بالوراثة، وصارت مسألة التدرب عليه أمرًا يمكن القبول به على استحياء، بل إن كثيرًا من وجهات النظر ترى أن تحسين هذه المهارة لا يمكن أن يحدث أصلًا.

يمكن القول: إن من أهم الأسباب التي أدت إلى عدم التدريب على الإبداع هي القناعة الراسخة بأن الإبداع ما هو إلا هبة، إما أن تمتلكها وإما لا، ولكني أومن أن مقدرة الإنسان على التدرب والتطوير لأي مهارة -أيًّـا كانت- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوجود ما يكفي من الرغبة والإرادة.

لكن مع مرور الزمن تغيّرت النظرة للإبداع والتمييز بين أنواعه، وفتحت أبوابًا كثيرةً غيرت في طريقة التعامل معه. فبدأت بعض مقاييس الإبداع بالظهور، وتزامن ذلك مع بعض البرامج التي تهدف إلى تنمية التفكير الإبداعي، إيذانًا بظهور حقبة جديدة في تنمية هذا التفكير.

القيود الذهنية

تلعب التربية دورًا كبيرًا في تقييد التفكير، فكم من الأفكار التي كنت تعتقد أنها ممكنة، ولسببٍ أو لآخر كُبِح جماح هذا الاعتقاد، وكم من الأفكار قوبلت بالرفض؟ وكم من مرة طُلب منك أن تكون منطقيًا في الطرح؟ وكم مرة تجاهلوك لأنك لم تسأل السؤال الصحيح؟ وكم مرة نُبذتَ؛ لأنك سألت أكثر من سؤال في دقيقة واحدة؟ فقد تُعتبر الفيلسوف في العائلة وبين زملائك؛ لكثرة أسئلتك وخروجها عن إطار المألوف.

وتكبر دائرة التنمر المعرفيّ، وبالمقابل تتقلص دائرة الرغبة في البحث عن المعرفة، ثم مع الوقت تُكبل بقيود الخوف المجتمعيِّ الّتي تمنعك من التفكير خارج الصندوق الذي رسموه لك من خلال مجموعة من القوانين التي لا يُسمح بالخروج عنها، ومن خلال معتقدات مجتمعية تنكرها أنت في البداية، ثم تتبناها لاحقًا، وتصبح أنت من يدافع عنها، وكل هذا نتيجة التماهي في أفكار المجتمع وعاداته، وغياب الجرأة الإبداعية التي لا بد لها أن تكسر التابوهات المجتمعية قبل أن تفرض ذاتها ووجودها.

ثم يأتي دور المدرسة، فالمعلم الفذ هو من يصب جام غضبه عليك إن سألت سؤالًا خارج نطاق المنطق، أو طرحت سؤالًا قد يكون لغيرك بديهيًا أو منطقيًّا، أو ربما سخيفًا. أما بالنسبة لك، فهو استفسار تبحث فيه عن معلومة تحاول أن تكمل بها دائرة غير مكتملة، أو مزيج ينقصه مكون آخر ليجعله أكثر جمالًا أو اختلافًا.

تبقى هذه القيود وتتحول إلى قيود ذهنية تصعب إزالتها ويصعب تحديها، فكم من معتقد كان من المسلمات يومًا ما، وكان يعاقب أو يصبح عرضة للسخرية كل من يحاول أن يشكّك في مصداقيته، ثم ثَبُت عكسه.

في عام 1633 مثل عالم الفلك الإيطالي جاليليو أمام المحكمة الرومانية آنذاك، ووجهت له تهمة الإلحاد؛ بسبب الإقرار بصحة أفكار نيكولاس كوبرنيكوس عن أن الأرض ليست هي مركز المجموعة الشمسية؛ إنما هي مجرد كوكب كغيره من الكواكب يدور حول الشمس التي تعد مركز المجموعة الشمسية، والأرض هي التي تدور في رحاها. ولأن هذا الأمر كان يعارض المعتقدات السائدة آنذاك، اتهم جاليليو بالخيانة، وأُجبر على الاعتراف علنًا بخطأ أفكاره، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وحُظر كتابه الذي يحوي هذه الأفكار، وانتهى به المطاف في المنفى ومات فيه، ولكن أثبتت التجارب اللاحقة صحة فرضيات كوبرنيكوس وجاليليو، وأثبتت أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية.

الإشكالية اللغوية

أعتقد أنّ الإشكالية تكمن في وضع تعريف للإبداع، فقد تسبب عدم وضوح مفهوم الإبداع، أو تحديد مفهوم محدد في تعظيم مشكلة تعليم الإبداع وتدريبه.

من جانب آخر ينبغي التفريق بين نوعين رئيسين من الإبداع؛ الإبداع الفني؛ وهذا النوع من الإبداع يُقصد به الإبداع الخارق، أي الإتيان بما هو نوعيٍّ لم يأتِ به شخص من قبل، كالإبداع الفني المرتبط بالرسم، مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو. أما النوع الآخر من الإبداع فهو ما يعرف بالإبداع “اليومي”: أو كما أسماه ديبونو “إبداع الأفكار” الذي يقوم على الإتيان بالأفكار الإبداعيّة للمنتجات والخدمات والعمليات.

لكن هل سنظل أسرى للأفكار السّائدة بأنّ الإبداع هو فقط الإتيان بالفريد الذي لم يسبق له مثيل؟ متى سوف نعلم أبنائنا أن الإبداع ليس ذنبًا وليس مرضًا؟ ومتى سيصبح ممارس الإبداع جزء من التقييم العلمي للموظف وابتكاره طريقة عمل جديدة هو بداية الطريق؟